في ليلة لا تشبه سواها، تحوّلت قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي بتونس العاصمة إلى مسرحٍ حيّ للذاكرة، بمناسبة اختتام الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، يوم 26 جوان 2025 حيث تابع الجمهور عرضًا موسيقيًا بصريًا بعنوان “الخيل والليل”، ألّفه موسيقيًا وصاغ تصوّره الفني كريم ثليبي.
بين الخيل والليل… بدأت الحكاية
العمل لم يكن مجرد عرض اختتام، بل رحلة حسّية تنقلت بين محاور الليل والخيل، بشاعريتهما ورمزيّتهما، حيث تم تأليف 21 قطعة موسيقية موزعة بين الأغنية الفردية والمقطوعات الموسيقية، والإلقاء الشعري.
كريم ثليبي… كتابة موسيقية خارج القوالب الجاهزة.
في عرض “الخيل والليل”، لم يقتصر دور كريم ثليبي على التأليف الموسيقي فحسب، بل تولّى بناء تصوّر فني متكامل يربط بين الصوت والصورة، في تجربة سمعية-بصرية تتجاوز العرض التقليدي.
ومن خلال 21 قطعة، أدار ثليبي الخيوط بدقة، فجعل من العرض رحلةً متصاعدة الإيقاع، تُبنى وفق منطق داخلي لا يُشبه البناء الكلاسيكي للأغاني.
في “الخيل والليل”، يعيد كريم ثليبي التفكير في العلاقة بين الموسيقى والذاكرة العربية المشتركة، من خلال تفكيك البنية اللحنية للتراث العربي وإعادة بنائها داخل تجربة سمعية–بصرية معاصرة، هو لا يتعامل مع التراث كمادة محفوظة، بل كنصٍّ حيّ، يندمج مع الصورة والإيقاع والإلقاء، ليُنتج مشهدًا متعدّد الطبقات تتحرّك فيه الرموز بمرونة داخل فضاء تعبيري مفتوح.
أصوات عربية … تغنّي بلا حدود
من تونس إلى موريتانيا، و من المغرب إلى اليمن، امتزجت الأصوات في عرض “الخيل والليل” لتشكّل نسيجًا فنيًا متنوعًا… كل صوت حمل لهجته وإحساسه، لكنهم جميعًا التقوا على وتر الوجدان العربي.
كريستيا كساب… من ليل أم كلثوم إلى نداء فلسطين.
حضرت الفنانة اللبنانية كريستيا كساب في عرض “الخيل والليل” بصوتها المميز، فافتتحت مشاركتها بأداء أغنية “هذه ليلتي” للسيدة أم كلثوم، فكانت لحظة طربية تميزت بالإتقان والاتزان، ثم عادت لتؤدي إلى جانب سهى المصري “هي هي”، في لوحة نابضة بالحياة ،ثم اجتمعا مجددا في أداء “شدوا بعضكم يا أهل فلسطين ، بصيغة ثنائية مؤثرة جمعت بين الالتزام الفني والرسالة الإنسانية.
أحمد الرباعي… حضور تونسي يتنقل بين المقامات.
في عرض “الخيل والليل”، كان الفنان التونسي أحمد الرباعي أحد الأصوات الأكثر حضورًا وتنوّعًا. بدأ مشاركته بأغنية “الليل يا ليلى يعاتبني”، فاستحضر بأسلوبه الشجي روح وديع الصافي، بصوت دافئ يُجيد الغوص في المقامات الشرقية.
عاد الرباعي ليشارك في ديو “راكب عالحمراء” إلى جانب رضوان الأسمر، ثم تألق منفردًا في “ليه يا عين لِيلي طال”، كما شارك في عدد من اللوحات الجماعية مثل “بين العصر و المغرب”، و” الليلة بالليل نمشي بشارع النيل”، و”أم قصاص طويلة”.
رضوان الأسمر… إيقاع الصحراء ونبض الليل.
في عرض “الخيل والليل”، شكّل اللقاء الصوتي بين الفنان المغربي رضوان الأسمر والفنان التونسي أحمد الرباعي أحد أبرز لحظات العرض. افتتح الأسمر مشاركته بأغنية “الليل زاهي”، ثم انطلقت الثنائية المتناغمة بينه وبين الرباعي في عدد من اللوحات، من بينها “راكب عالحمراء”، و”أم قصاص طويلة”، و”الليلة بالليل نمشي شارع النيل”، إلى جانب مشاركتهما في ثلاثية “بين العصر والمغرب”. صوته بدا كأنّه صدى الصحراء… عميق، حرّ، ومحمّل بروح الترحال.
سهى المصري… صوت اليمن الذي يعبر الليل إلى فلسطين.
أطلت الفنانة اليمنية سهى المصري في عرض “الخيل والليل” في اربع محطات أدّت منفردة أغنية “ليل يا ليالي” ، ثم شاركت عبد المجيد إبراهيم “حمول الخيل”، لتعود لاحقًا إلى جانب كريستيا كساب في أداء “هي هي”، في لوحة نابضة بالحياة، وتختم مشاركتها مع نفس الثنائي بأغنية “شدوا بعضكم يا أهل فلسطين”
بادائها المتّزن، مثّلت صوتًا فنيًا ملتزمًا، وحضورًا مؤثرًا ضمن النسيج الفني المتنوّع للعرض.
عبد المجيد إبراهيم… نَفَس الخليج في قلب العرض.
قدّم الفنان السعودي عبد المجيد إبراهيم مشاركات متعددة بصيغة خليجية أصيلة، انطلق بأغنية “سارة فرس”، ثم “شيْلة الفرس”، وشارك في “بين العصر و المغرب”، و”قالوا تحب الخيل” مع منى دندني، و”حمول الخيل” مع سهى المصري.
منى دندني… صوت موريتانيا بين الموال والصحراء.
لفتت الفنانة الموريتانية منى دندني الانتباه بأدائها لأغنية “الليل موال العشاق”، وأغنية “ويلو”، وثنائي “قالوا تحب الخيل” مع عبد المجيد إبراهيم. شكّلت منى دندني جسرًا صوتيًا بين جنوب غرب الوطن العربي وشرقه، وأضفت على العرض بعدًا إفريقيًا متفرّدًا.
بهاء الدين بن فضل… الصوت الذي ينساب بين المقاطع.
تميّز الفنان التونسي بهاء الدين بن فضل بحضور خاص في مقطوعة “الزمان مواتي”، وتولّى أدوار الربط الصوتي الخفي بين مشاهد العرض. كان حاضرًا حيث يكون المعنى بحاجة إلى نبرة تُثبّت الإحساس.
رمزية الخيل والليل… بين الصورة والصوت.
يحمل عنوان “الخيل والليل” رمزية مركّبة تختزل روح العرض، حيث تمثّل الخيل رمزًا للقوة والكرامة، ويغدو الليل فضاءً للتأمل والبوح. وقد تعزّز هذا البعد الرمزي من خلال الصور البصرية والإلقاء الشعري بصوت معز الغربي، الذي منح العرض طابعًا تأمليًا وشاعريًا.
عرض يختتم المهرجان… ويبدأ رحلته في ذاكرة الجمهور.
لم يكن “الخيل والليل” مجرد عرض اختتام للمهرجان العربي للاذاعة و النلفزيون ، بل تجربة شعورية تسكن الذاكرة وتستحق أن تُعاد… هو من تلك الأعمال التي لا تكتمل في مشاهدة واحدة، بل تُروى على مراحل.