في سنواته الأخيرة، إنسحب مارلون براندو من دائرة الأضواء التي لاحقته طيلة حياته. تحوّل منزله في بيفرلي هيلز، إلى ملاذ للعزلة، يحرسه الصمت والذكريات. ذلك النجم الساطع في هوليوود الخمسينيات أصبح يعيش بهدوء بين رفوف الكتب، وأسطوانات موسيقى الجاز، وبكرات الأفلام القديمة. كان يعيد مشاهدة “على الواجهة البحرية” و”العرّاب”، لا بدافع الغرور، بل رغبة في إستعادة شذرات من نفسه التي تاهت منه مع الزمن. تقلّصت دائرته المقربة لتقتصر على ممرضة، ومدبرة منزل، وحفيده الحبيب توكي.
تدهورت صحة براندو تدريجياً ولكن بثبات. صارع مرض السكري، وفشل القلب، والتليّف الرئوي، فتحوّلت لحظات يومه العادية إلى معارك صامتة. كان يكره المستشفيات؛ يرفض برودها العقيم وأنوارها الفلورية. روحه الجامحة التي كانت تُطلّ من شاشات السينما لم تتقبل فكرة الموت في مكان كهذا. فإختار البقاء في منزله، يستيقظ متأخراً، يحتسي الشاي، يجلس بجانب النافذة في كرسي خاص صُمم لراحته، يتنفس بصعوبة ولكن بإصرار. قال ذات مرة: “دعوني أغادر المسرح بعيداً عن الأضواء”، طلباً للسلام، لا للتصفيق.
كان آخر أفلامه (2001 The Score)، الذي جمعه بروبرت دي نيرو وإدوارد نورتون. خلف الكواليس، إشتعل التوتر حين إصطدم براندو بالمخرج فرانك أوز. ورغم هذه الإحتكاكات، حافظ أداؤه على الجاذبية التي كرّسته كأيقونة سينمائية. بعد ذلك، إعتزل نهائياً، منهكاً لا من التمثيل فحسب، بل من لعبة الشهرة بأكملها. لقد رأى ثمنها ورفض دفع المزيد.
في تأملاته الهادئة، أصبح براندو أكثر فلسفية. قال للصحفي بيتر مانسو إنه لا يخشى الموت، بل يخاف فقط من تشويه إرثه. “لقد جعلوني إلهاً ومهرّجاً في الوقت نفسه”، قال. “وكل ما أردته هو أن أكون إنساناً”.
ومع تفاقم حالته في عام 2004م، قلّ كلامه، نقص طعامه، وزادت ساعات نومه. كانت كلماته الأخيرة، حين بدأ الضوء يتلاشى: “كل ما أريده الآن هو النوم”.
توفي مارلون براندو في الأول من يوليو عام 2004م، لا أمام الكاميرات، ولا تحت أعين العالم، بل وسط الصمت وأولئك الذين وثق بهم. لم تكن هناك وداعات علنية، بل مكالمة هادئة قبل أيام لكونسي جونز قال فيها: “ضحكنا أكثر مما بكينا، أليس كذلك؟” حتى في وداعه، بقي شاعراً. الرجل الذي غيّر التمثيل إلى الأبد، رحل في هدوء… تماماً كما كان يتمنى.